مأساة الاستقبالات الكرنفالية

خميس, 06/11/2025 - 18:20

تمثل الزيارات الرئاسية إلى الداخل لحظة سياسية بالغة الأهمية يفترض أن يظهر فيها رئيس الجمهورية قريبا من المواطن ومستعدا للاستماع إليه خارج البروتوكول. غير أن ما يحدث في الواقع يعكس صورة معكوسة؛ حيث تتحول كل زيارة إلى عرض احتفالي معد مسبقا، ينعشه كبار الموظفين والوجهاء وتعطل في سبيله مصالح المواطنين، ويتسابق المسؤولون أبناء الولاية إلى الواجهة في مشهد رديء سرعان ما يتحول إلى استعراض قبلي تتوارى فيه مؤسسات الدولة خلف الأعلام واللافتات.
يحدث كل ذلك تحت مسمى "الترحيب بالضيف الكريم" من خلال "استقبالات شعبية" ليست في الحقيقة سوى تمرين جماعي على صناعة الوهم؛ حيث تتحرك آلة السلطة الجهوية في الولاية والسلطات المحلية في المقاطعات لتقديم نسخة مثالية من الواقع، يتم لأجلها ترتيب كل شيء بعناية فائقة من أجل تضليل الضيف ومنعه من رؤية معاناة المواطنين على حقيقتها.
في هذه المسرحية المتكررة، لا تكون الدولة حاضرة بوصفها مؤسسة، بل بوصفها جمهورا يصفق لنفسه ويخدع ذاته وشعبه، تتم إعادة طلاء المدارس والمراكز الصحية والواجهات القريبة من مرور الرئيس على عجل، وأحيانا تفرش الطرق الترابية بطبقة من الإسفلت المؤقت، ويتم نشر الشعارات الرنانة وتدبيج الخطب المديحية العصماء، حتى إذا ما جاء الرئيس يجد الولاية قد أعيد ترتيبها بكثير من المكر والدهاء  من أجل الزيارة.
وهكذا، تتوارى الحقائق خلف الزينة المؤقتة، ويختفي الواقع في ظلال مشهد مصمم ليرضي السلطة بدل أن يكشف لها ما يجب أن تعرفه. وتصبح الزيارة، التي يفترض أن تكون وسيلة تواصل ومناسبة للمساءلة والمراجعة، مجرد طقس بروتوكولي خادع، نتيجته الوحيدة هي المزيد من الانفصال بين الحاكم والمحكوم والمزيد من تكريس الدولة بوصفها صورة جوفاء يمكن التلاعب بها من طرف إداراتها اللامركزية وكبار مسؤوليها ووجهاء قبائلها.
ما لا يدركه كثيرون هو أن هذا النوع من العروض المسرحية لا يضر فقط بصورة الحكم، لكنه أيضا يعمق خللا بنيويا في ثقافة الإدارة والسياسة معا؛ حيث يتعلم المسؤول المحلي أن نجاحه لا يتعلق بحل مشكلات المواطنين، بل بمدى براعته في التملق وتنظيم الحشود وتنسيق الاستقبالات الكرنفالية. وحيث يتعود المواطن أن الزيارات الرئاسية ليست لحظة إنصاف ولا اطلاع، وإنما هي مناسبات للبهرجة واستغلال غباء بسطاء المواطنين في أسواق النخاسة السياسية.
تلكم هي مأساة "مواسم الاستقبالات الكرنفالية": مشهد متكرر يستهلك فيه الجهد العام من أجل صناعة صورة لا عمر لها تذوب مباشرة بعد انقضاء الحدث. ما إن يغادر الرئيس، حتى تعود الطرق إلى تآكلها والمدارس إلى خلوها والمستشفيات إلى ضعفها، وكأن شيئا لم يكن. يذوب الطلاء وتتبخر الشعارات ويبقى المواطنون لمعاناتهم، وتبقى الدولة على حالها مثقلة بعجزها البنيوي وبثقافة تظل ترى في الحاكم مجرد زائرا وليس قائدا يرى ويسمع ويجيب.
والواقع أن ما نحتاجه اليوم ليس مزيدا من الحشود المخدوعة لتصفق لهذا الرئيس أو ذاك، بل دولة تملك الشجاعة لتواجه نفسها كما هي، وسلطة تسمع الحقيقة كما ينطقها الناس لا كما يصوغها الموظفون؛ ذلك أن المجتمعات لا تبنى بالتصفيق، وإنما بالجرأة على الاعتراف بالأخطاء ومواجهتها، والسلطة التي لا تستمع إلا لصوت الإعجاب والتبجيل تفقد تدريجيا قدرتها على الفهم والتصحيح، وتصبح بالتالي هشة أمام التحديات.
وكالة كيفه للأنباء