توسط مقبرة تاريخية تضم رفات مجموعة من رفاقه
“بلال الولي” ضريح تقود إليه الصخور
نواكشوط - المختار السالم
في أرض "تفلي" الممتدة مئات الكيلومترات شمال العاصمة نواكشوط باتجاه مدينة "أكجوجت"، تظهر الأرض بساطاً أحمر بسبب تربتها الصخرية، التي تعطي هذا السهل منظراً أخاذاً، وكأنه قطعة من أرض المريخ بلونها المثير، وفي "تفلي" ألف حكاية وحكاية تروى هنا بألسنة السكان الأصليين القلائل، الذين ما زالوا صامدين مع مواشيهم ولم تغرهم المدنية الحديثة، لكن في "تفلي" كتبت فصول من التاريخ الروحي لبلاد "شنقيط"، ومن بينها ضريح بلال الولي الذي يعتبر اليوم من أهم المزارات في موريتانيا .
بعد 200 كيلومتر على طريق نواكشوط - أكجوجت، تتوقف سيارتنا عند اللافتة التي كتب عليها "مقبرة بلال الولي" مع إشارة إلى أن الضريح يبعد عشرة كيلومترات غرب اللافتة .
تعرف أرض "تفلي" بصعوبة الاستدلال فيها، فهي سهل بطول مئات الكيلومترات في جميع الاتجاهات، ومن اليسير أن يضل المرء طريقه في مثل هذه الأرض، لكن رفيقنا في هذه الرحلة المؤرخ والكاتب الحسن ولد محنض يطمئننا أننا سنصل من دون أن نحيد عن الاتجاه بوصة واحدة بفضل الصخور الكرانيتية المطلية باللون الأصفر، والتي وضعت على طول الطريق نحو الضريح، وتفصل بين كل صخرة وأخرى حدود مئة متر فقط، وهنا بموازاة هذه المسبحة الكرانيتية تسير سيارتنا مسافة ثمانية كيلومترات، قبل أن نرى شجيرات قليلة مترامية في المنطقة، فيقول السائق حاولوا وسترون كدية إنها صغيرة وداكنة ولا ترى إلا من قريب، ثم يمد يده إلى الجهاز مستكشفاً مكان الكدية، حيث تذكر أن محبي "بلال الولي" قاموا بوضع مكان قبره على شبكة تحديد المواقع الجغرافية، يتضح أننا نسير تماماً على الطريق الصحيح، وأن مسبحة صخور الكرانيت الملونة وضعت بعناية تامة، ثم تظهر كدية، وتعني في اللهجة المحلية الأرض الملساء من مسح السيل، وهي عبارة عن مرتفعين صخريين لا يفصل بينهما إلا عدة أمتار .
بنيت على المرتفع الصخري الشرقي غرفة ليتمتع ضيوف المزار بالراحة والظل الظليل في أرض حارة صيفا، باردة شتاء . وداخل الغرفة غير المغلقة الباب، توجد مياه صالحة للشرب، ومواد كثيرة منها السكر والشاي والبسكويت والفستق، وألبان ومعلبات، وكل هذا لضيافة زوار الضريح، والمارة في هذه المنطقة .
أما على المرتفع الصخري الغربي المعروف بمدفن "لمسيحة"، فيقع ضريح "بلال الولي" في أعلى المرتفع ومن حوله قبور رفاق حياته، وعدد من الشخصيات التي دفنت في هذه المقبرة التاريخية، واختار أهلها أن يدفنوا ذويهم قرب هذا الرجل الصالح .
في الوسط يقع قبر "بلال الولي"، وهو أكبر ضريح في المقبرة، ودفن أصحابه المشهورون حوله إلى الجانب الشرقي، والغربي، والشمالي، ومن أشهر هؤلاء "بدالي" و"السماني" "وأحمد يوره" وصلاحي" نجل العلامة الموريتاني الشهير الشيخ محمد المامي .
لكل من هؤلاء قصة معروفة في موريتانيا، ف"صلاحي" قام في حياته بحفر أكثر من 100 بئر وقف لله تعالى، وهو إنجاز قياسي في ذلك الزمن، وفي مناطق معروفة بندرة الماء، وأحمد يوره ولد العاقل، هو جد عائلة أهل أحمد يوره، وهي عائلة من العباقرة في العلوم الشرعية والشعر والفتوة العلمية، وتعتبر هذه العائلة اليوم من كبريات العوائل في البلاد وأكثرها احتراماً، أما "بدالي" فهو محمد عالي اليعقوبي، عرف بالقرآني العظيم حتى صار علماً عليه، ونُقش على قبره: "محمد عالي القرآني" .
ودفن خلال السنوات الأخيرة ب"لمسيحة" العالم محمد فال ولد أحمد ولد زين القناني وابنة عمه السلطانة بنت الحسن ولد زين، ودفن أيضاً عبد الرحمان بن مولود بن محمد مبارك عميد أسرة "أهل آفلواط"، جنب والدته مباركة بنت الحاج عمر على جهة الصلاة من ضريح جده بلال الولي .
ويطلق البعض على مزار "لمسيحة" مقبرة الأولياء، وذلك لعظمة قدر من به من الأجلاء والصالحين .
دفن "بلال الولي" في قبر أعلى كدية "لمسيحة"، لا يميزه سوى كبر حجمه قياساً للقبور من حوله وبعض الصخور والأخشاب، واللافتة التي تعرف به، وهو قبر متقشف، إن صح التعبير، كأغلب القبور في هذه البلاد، التي تتبع فيها بعناية شديدة تعاليم القبور وفق المذهب المالكي .
نجلس عند ضريح "بلال الولي"، ونقوم بواجب الدعاء، فيما تحضر قصة هذا الرجل الصالح، قصة معروفة في موريتانيا، لا يختلف على كلمة واحدة منها، وأحداثها قريبة نسبياً حيث حدثت في القرن الثاني عشر الهجري .
ولد بلال في ضواحي منطقة "أبي تلميت"، 56F كلم شرق العاصمة نواكشوط، وكان عبداً لأسرة من قبيلة موريتانية معروفة، وأبوه هو محمود، ووالدته اسمها "فيطوم"، نشأ وهو يخدم أسياده ويرعى ماشيتهم ويقوم بخدمتهم على أحسن وجه، وكان باراً بوالديه ومعروفاً بحسن الصلاة، لكن لم يكن ينظر إليه إلا على أنه عبد على غرار سواه من العبيد .
وفي منطقة "إنشيري" على بعد مئات الكيلومترات من "أبي تلميت" كان يقيم وقتها العلامة الموريتاني المعروف بالصلاح الشيخ محمد المامي، وهو موسوعة علمية نادرة، ومؤلف كتاب "فقه البادية"، وأول عالم يدعو لقيام دولة مركزية في موريتانيا .
ويروى أن أسياد بلال فوجئوا ذات يوم بمبعوث وصل إليهم من طرف الشيخ محمد المامي، وكان يحمل رسالة مختصرة تقول "يقول لكم الشيخ محمد المامي إن الأولياء لا يستبعدون وإن بلال ولي" .
وعلى الفور قام أسياد بلال بعتقه، حيث توجه بلال إلى الشيخ محمد المامي وأمضى معه فترة، ثم غادر إلى الشمال نحو أحد العلماء المشهورين، لكن لم يمض معه إلا فترة وجيزة و"صدره" وهو التعبير الموريتاني عن قيام العالم بتزكية طالبه كعالم متبحر في العلوم الشرعية .
ثم عاد بلال إلى منطقة الساحل الموريتاني، حيث ذاع صيته وثار جدل حول "كرامات" مزعومة له، لكنه عموماً تفرغ للعبادة طوال حياته، وكان معروفاً بحسن الصلاة، وخلال مقامه بمنقطة الساحل كان محل زيارة كبار القوم وأشرافهم، ملتمسين دعاءه وبركاته، وفي ذات المنطقة تعرف إلى أصدقائه المقربين "أحمد يوره" و"بدالي" و"السماني"، وقد تمنى الأصدقاء الأربعة دفنهم في مكان واحد وأن يكون "لمسيحة"، وهو ما تحقق فعلاً .
لم يكن "بلال الولي" يعبأ بالمنكرين لصلاحه، وكان يقابلهم بحسن المعشر وسعة الصدر، ومن أشهر ما يحكى في هذا المجال أنه ذات يوم قدم إليه لأول مرة أحمد يوره، وكان سيداً في قومه وعارفاً بعلوم الشريعة واللغة، ولما جلس سأل بلال أمام الحضور قائلاً: "ما هي الكرامات التي أعطتها لك العناية الربانية؟"، فرد بلال الولي ضاحكاً "أليس من بينها أنك أنت أحمد يوره ولد العاقل، وأنت من أنت، جئت لزيارتي"؟ فضحك الحضور، وبدأت صداقة الرجلين التي ستتواصل حتى الدفن في مكان واحد .
عاش بلال متفرغاً للعبادة وكان يقول الشعر من غير تعلم وأغلبه توسل ودعاء .
وقيل شعر كثير في مدح بلال من قصائد بالفصحى والشعبية .