ما هو الوضع القانوني لرئيس جمهورية سابق؟ هل يتمتع بحصانة بخصوص الأفعال التي تمت في إطار ممارسة الوظيفة الرئاسية، وإذا كان الجواب بنعم، ما هي طبيعة وحدود هذه الحصانة؟ هل يتوفر على امتياز قضائي قد يحول دون محاكمته أمام المحاكم العادية؟ أم أنه مجرد مواطن كبقية المواطنين، مسؤول عما ارتكب من أفعال، في نفس الأوضاع كباقي المتقاضين؟ هل يجب التمييز أم لا يجب حسب طبيعة الأفعال التي قام بها خلال مأمورياته؟
الهدف من هذه المساهمة هو الإجابة على هذه التساؤلات. وفي هذا السياق تبرز ملاحظة تمهيدية تفرض نفسها. لا توجد في القانون الموريتاني -المأخوذ بشكل مباشر من القانون الفرنسي السابق على المراجعة الدستورية في 23 فبراير 2007، التي أوضحت الوضع الجزائي لرئيس الجمهورية- نصوص قانونية خاصة بالوضع القانوي والقضائي لرئيس سابق للدولة. فالوضع القانوني لهذا الأخير يحدد بالرجوع إلى الترتيبات الدستورية المتعلقة بمسؤولية الرئيس الموجود في السلطة، من ناحية، وإلى المبادئ العامة للقانون، من ناحية أخرى.
وعليه، سأتطرق أولا إلى هاتين النقطتين قبل أن أوسع التفكير ليشمل اعتبارات ترتبط بالسياق الحالي الذي يتسم بالبحث المحتمل عن مسؤولية رئيس الجمهورية السابق.
أولا: نقطة الانطلاق: الترتيبات الدستورية وتبعاتها حول مسؤولية رئيس الدولة وهو يمارس السلطة
بمقتضى المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991 >>لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أعمال قام بها في إطار ممارسته لوظائفه إلا في حالة الخيانة العظمى.
ولا يمكن اتهامه إلا من قبل غرفتي البرلمان اللتان تبتان عبر تصويت مطابق لأعضائهما في اقتراع علني وبالأغلبية المطلقة عبر تصويت مطابق للأعضاء الذين يشكلانهما؛ وتتم محاكمته من طرف محكمة العدل السامية<<.
يشكل هذا النص إعادة كاملة لنص المادة 68 من الدستور الفرنسي المعتمد 1958 وقد بقي دون تعديل حتى القانون الدستوري رقم 022 ـ 2017 الذي بعد إلغاء مجلس الشيوخ أبدل في الفقرة الثانية كلمة "الجمعيتان" بالكلمتين "الجمعية الوطنية" وحذف كلمة "مطابق" (المادة 92، الفقرة 2، في صيغتها المتأتية من القانون الدستوري الاستفتائي رقم 022 ـ 2017 / ر.ج) المتضمن مراجعة بعض أحكام دستور 20 يوليو 1991)، حيث يمكن أن نقول أنه في الجوهر، بقى النص كما هو.
وبما أنه مجرد استنساخ، كلمة لكلمة، من المادة 68 من الدستور الفرنسي، فإنه من الضروري التذكير بكيف تم تأويل هذا النص الأخير من طرف الفقه القانوني والقضائي الفرنسيين.
وللتبسيط، من الممكن القول إن هذا النص "ذو الوضوح الكاذب" كان موضع تأويلين. الأول يقيم رابطا منطقيا مباشرا بين فقرتي أو جملتي النص، إذ يعتبر أن هذا الأخير يؤسس لمبدأ عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن جميع الأفعال التي قام بها خلال ممارسته لمهامه، باستثناء حالة الخيانة العظمى، وفي هذه الحالة، ينعقد الاختصاص الحصري لهيئة خاصة لمحاكمته، وهي محكمة العدل السامية. وتكون بذلك الفقرة الثانية من النص امتدادا منطقيا للفقرة الأولى: وبما أنه مسؤول خلال ممارسته لمهامه فقط في حالة الخيانة العظمى، فلا يمكن أن يحاكم الرئيس في هذه الحالة إلا من طرف محكمة العدل السامية.
إن عدم المسؤولية القانونية للرئيس عن الأفعال التي تتم خلال ممارسته لوظائفه، باستثناء حالة الخيانة العظمى، تستجيب عادة للحرص على حماية الوظيفة الرئاسية وتسهيل حرية تصرف صاحبها. تُكَمَّلُ بعدم مسؤوليته السياسية أمام البرلمان. وفي نظامنا شبه الرئاسي، فلا الرئيس مسؤول من الناحية السياسية إلا أمام الشعب. بخلاف الحكومة (الوزير الأول والوزراء)، ولا هو ملزم بأي شيء أمام البرلمان الذي لا يمكنه أن يستدعيه ولا أن يوجه إليه تحذيرا. وعليه فإنما يصدق على البرلمان يصدق بالأحرى على الهيئات المنبثقة عنه، وبشكل خاص لجان التحقيق البرلمانية.
ومع ذلك فالنص الدستوري لا يقدم أجوبة مباشرة عن تساؤلات جوهرية تتعلق بمسؤولية رئيس الجمهورية. إذ تحصر المادة 93 من الدستور الموريتاني، كنموذجه الفرنسي، عدم مسؤولية رئيس الجمهورية في "الأفعال المقام بها أثناء ممارسته لوظائفه"، باستثناء الخيانة العظمى.
وبالمقابل بمفهوم المخالفة، فإن رئيس الجمهورية مسؤول عن جميع الأفعال الأخرى التي قام بها >>في ممارسة وظيفته الرآسية<< وينطبق ذلك، ليس فقط على الأفعال الخصوصية لهذا الأخير (أفعال الحياة المدنية، الشؤون الخاصة"، بل وبالأخص على الأفعال المقام بها بصفته رئيسا للجمهورية، لكنها أفعال يمكن فصلها عن الوظيفة الرئاسية نفسها بسبب مضمونها أو غايتها، فالفقه القانوني مجمع على اعتبار أن "الأفعال القابلة للفصل" ليست مشمولة بمبدأ عدم المسؤولية وأن رئيس الجمهورية مسؤول من الناحية القانونية والشخصية عن تلك الأفعال) كما ذكر ذلك بجدارة صديقي ذ / لو كورمو في مداخلته الأولى). ويمكن أن تشمل هذه الأخيرة حالات خرق القانون، خاصة المخالفات الجزائية المرتكبة من قبل رئيس الجمهورية تحت غطاء الوظيفة الرئاسية، لكن دون ربط مباشر وقريب مع هذه الأخيرة، لأنها تخدم هدفا وإطار خصوصيا.
وتميز غرفة الجرائم بمحكمة النقض الفرنسية بهذا الخصوص منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، فيما يتعلق بممارسة الوظيفة الرئاسية، بين الأفعال التي لها علاقة مباشرة مع هذه الأخيرة، والتي تبرر اختصاص محكمة العدل السامية والأفعال الأخرى، وبالأخص «الأفعال المقام بها فقط ((بمناسبة ممارسة الوظيفة الوزارية)) والتي تخضع، هي الأخرى، للقانون العام. ويدخل في إطار هذه الأفعال كل ما له علاقة بالثراء الغير شرعي والفساد.
وفي المحصلة، فإن رئيس الجمهورية مسؤول بالتأكيد وبشكل شخصي عن الأفعال المقام بها خلال مأموريته لكنها وحسب الأفعال القابلة للفصل عن وظيفته الرئاسية، لأنها تمت بمناسبة ممارسته لهذه الأخيرة بهدف مغاير لتسيير الشؤون العامة.
من يستطيع في هذه الحالة محاكمة رئيس وهو يمارس السلطة على تلك الأفعال؟
وهنا يأتي التأويل الثاني للمادة 93 من الدستور (المادة 68 من الدستور الفرنسي). فبحسب هذا التأويل، فتجب قراءة الفقرة 2 من النص بشكل منفصل عن الأولى. فهي قد تؤسس لامتياز قضائي (بالرجوع إلى محكمة العدل السامية) بخصوص كل الأفعال التي يقوم بها رئيس لا يمارس السلطة حتى تلك التي لا يمكن أن توصف على أنها خيانة عظمى. لقد تم تكريس هذا التأويل من طرف المجلس الدستوري الفرنسي سنة 1999 (مؤكدا أن المسؤولية الجزائية لرئيس الجمهورية لا يمكن إثارتها قضائيا خلال فترة ممارسته لوظيفته إلا أمام محكمة العدل السامية) وهو الموقف الذي رفضته بقوة الجمعية العامة لغرف محمة النقض الفرنسية 2001 والتي اعتبرت (أن محكمة العدل السامية ليست مختصة البتة إلا في الحكم في الأفعال التي تشكل خيانة عظمى)، وكذلك وفق الأغلبية الساحقة من فقهاء القانون بما فيهم أولئك الذين شاركوا في كتابة المادة 68 من دستور 1958 كالأستاذ جان أفوايي (Jean Foyer)
كما تؤكد على ذلك بوجاهة محكمة النقض الفرنسية، فإن مسؤولية رئيس الجمهورية الجزائية عن جميع الأفعال، غير الخيانة العظمى، هي من اختصاص المحاكم العادية. بيد أنه ما دام الرئيس في السلطة، لا توجد متابعات جزائية محتملة ضده بسبب مبدأ فصل السلطات وضرورة تفادي تدخل السلطة القضائية في حقل الوظيفة الرئاسية.
وعليه، تعلق هذه المتابعات حتى انقضاء مأمورية الرئيس حيث يمكن استئنافها أمام المحاكم العادية.
هذا هو تأويل المادة 68 من الدستور الفرنسي، مصدر المادة 93 من دستورنا، الذي انتهى به المطاف إلى أن فرض نفسه والذي كرسه بقوة وتفصيل إصلاح 2007.
ولذا تكون تبعات هذا التأويل على الوضع القانوني والقضائي لرئيس سابق جد مهمة:
لا يكون هذا الأخير مسؤولا عن الأفعال التي تمت خلال ممارسته للوظيفة الرئاسية (سواء كانت الأفعال الخاصة بالسياسة الداخلية، بما فيها السياسة الاقتصادية، أو الأفعال المتعلقة بالسياسة الخارجية) إلا في حالة الخيانة العظمى. وهي المفهوم في نفس الوقت الغير محدد في الدستور. قدم في فقه القانون ألف تعريف وتعريف تتراوح بين تعريف ضيق، يحصر الخيانة العظمى في حالات الخروقات الخطيرة للدستور، وتعريف موسع يشمل أي إخلال من طرف رئيس الدولة بالتزاماته القانونية، بما في ذلك ارتكاب مخالفات جنائية. فلا الدستور ولا القانون الجزائي ينصان على العقوبة المطبقة على الخيانة العظمى! وتكون الهيئة القضائية المختصة بمحاكمة رئيس سابق في حالة الخيانة العظمى هي محكمة العدل السامية.
ويعتبر أي رئيس سابق مسؤول أيضا عن الأفعال الخاصة التي تمت خلال مأموريته والتي يمكن وصفها بمخالفات جنائية. وتكون المحاكم المختصة في هذه الحالة هي المحاكم العادية.
وأخيرا، فإن أي رئيس سابق يكون مسؤول عن الأفعال التي تمت بصفته رئيسا لكنها منفصلة عن الوظيفة الرئاسية، لأنها لم تتم في الإطار الحصري لممارسته لوظيفته بل " بمناسبة هذه الأخيرة". هنا أيضا فإن المحاكم المختصة هي المحاكم العادية، لأنه في كل الأحوال، ليست محكمة العدل السامية مختصة إلا في حالة الخيانة العظمى.
ثانيا: المبادئ العامة للقانون كمرجع تكميلي
سنكون هنا أكثر اختصارا. ففور انتهاء مأموريته، يصبح الرئيس السابق مواطنا كغيره من المواطنين. فالمبدأ الذي يحكم في هذا المجال سير دولة جمهورية هو مبدأ مساواة الجميع أمام القانون. وفي منظومتنا القانونية، تم الأخذ بقوة بهذا المبدأ في المادة الأولى، الفقرة 2 من الدستور، والتي بمقتضاها "تضمن الجمهورية لكافة المواطنين المساواة أمام القانون."
فبعد أن أصبح مواطنا عاديا، لا يمكن لرئيس سابق أن يحصل على حصانة شخصية أو امتياز قضائي. فهو مسؤول مدنيا وجنائيا أمام المحاكم العادية عن الأفعال التي قد يكون ارتكبها بصفته شخصية خصوصية أو عن الأفعال التي قام بها بصفته رئيسا ويتضح فصلها عن الوظيفة الرئاسية.
بمقتضى الترتيبات المادة 93 من الدستور الآنفة الذكر من الممكن بالطبع أن يقوم دوما بالمطالبة، بتطبيق للأحكام المذكورة آنفا الواردة في المادة 93 من الدستور، بحصانة وظيفية باقية بخصوص الأفعال المقام بها في إطار ممارسة الوظيفة الرئاسية، باستثناء حالة الخيانة العظمى. لكن بما أن هدف هذه الحصانة هو حماية الوظيفة الرئاسية من توسيع السلط المُؤَسَّسَة لمجالها على حساب مؤسسة الرئيس وليس تمكين صاحبها من خرق القانون دون رادع، فإن مجالها يجب أن يبقى محصورا في الأفعال التي لها علاقة مباشرة مع تسيير شؤون الدولة. وتبقى كافة الأفعال الأخرى هي من اختصاص القضاء العادي، وبالأخص تلك التي تمت فقط بمناسبة ممارسة الوظيفة الرئاسية والتي لها غاية خصوصية.
من ناحية أخرى، فإن دراسة القانون المقارن، بما في ذلك مجال حصانات رؤساء الدول الأجنبية السابقين، تبين أن الاتجاه العام اليوم هو الحد من مجال الحصانات التي تعتبر أمرا غير طبيعي يتعين انهاؤه في دولة القانون.
في النهاية، إذا كان رئيس الدولة لا يتمتع بحصانة شخصية، أي حصانة قد ترتبط بصفته كرئيس سابق ولا بامتياز قضائي، باستثناء الأحكام المذكورة آنفا في المادة 93 من الدستور، فإنه مع ذلك يستفيد من كافة الحقوق الأساسية المعترف بها للمواطنين وبالأخص حق قرينة البراءة وحقه في صيانة شرفه وكرامته (المادة 13 من الدستور).
ثالثا: بعض الاعتبارات المرتبطة بالسياق الحالي بخصوص إمكانية البحث عن مسؤولية الرئيس السابق
إن السياق الذي يطرح فيه اليوم السؤال بخصوص إثارة مسؤولية رئيس الجمهورية السابق تهيمن عليه أعمال لجنة التحقيق البرلمانية المكلفة بتسليط الضوء على عدة ملفات وهي الملفات التي طغت خطأ أو صوابا على المشهد الإعلامي، وأصبحت رمزا للانحرافات التسييرية للشؤون العامة خلال العقد الماضي.
فحجم وخطورة وتواتر الشكوك بسوء استخدام السلطة والثراء غير الشرعي هي أمور صدرت من أفاق متعددة، وتعاطتها شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الحرة والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمعارضة الديمقراطية، كل هذه العوامل تجعل من الواجب التحقيق في هذه الملفات. فالسؤال المحوري الذي يشغل بال كل الموريتانيين النزهاء يتعلق أولا بالكشف عن الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، دون إفراط ولا تفريط، بخصوص تسيير هذه الملفات.
إن حق المواطن في الحصول على الحقيقة مرتبط بواجب تقديم الحسابات التي تقع على عاتق كافة القادة باعتبار أن ما يتولون تسييره ليست شؤونا شخصية بل شؤونا عامة، أي شؤوننا نحن جميعا، ويبرز اليوم هذا الحق كأحد أقوى مبادئ الديمقراطية المتعارف عليها ويجسد بالتالي حق جميع المواطنين في الحصول على الحقيقة بكل وضوح وبكل موضوعية على الطريقة التي تمت بها معالجة الملفات المثيرة للجدل.
ويفترض في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية تقديم الإجابة على هذا المطلب. وبخلاف فكرة شائعة، فإن دور هذه الأخيرة ليس تحديد المسؤولين، لا يدخل ذلك ضمن مهمتها بل يقاصر دورها في تسليط كل الضوء على الملفات التي عهد إليها بها من طرف الجمعية الوطنية.
وبعد إثبات الوقائع بالطريقة المطلوبة واثبات المخالفات المحتملة الموثقة، يتسنى آنذاك التساؤل حول تكييفها القانوني وحول تحديد الأشخاص المسؤولين إذا ظهر بالأدلة، أن هذه المخالفات وخروقات القانون قد تم ارتكابها بالفعل.
وخارج نطاق هذه الحالة بالذات، أي خارج الملفات التي عُهِد بها إلى لجنة التحقيق البرلمانية، فإن سؤالا يطفو على السطح حول أسلوب الحكامة التي سادت منذ عدة عقود وإفلات الحكام من العقوبة ومن ضمنهم جزء من النخبة الحاكمة التي بنت علاقة فساد مع المال العام وتقود بذلك البلد حتما إلى طريق مسدود.
وفيما يتعلق خصوصا برئيس الجمهورية السابق، فإن الرهان يتجسد فيما إذا كان تقرير لجنة التحقيق البرلمانية سيقدم عناصر تثبت أنه هو نفسه قد ارتكب أفعالا عليه أن يساءل عنها قانونا.
قد يتعلق الأمر بأفعال تمت مباشرة ضمن ممارسته لوظيفته الرئاسية. في هذه الحالة يمكن أن تكون أفعال قيم بها مباشرة في تأدية الوظائف الرآسية وفي هذه الحالة فلا يمكن أن يكون مسؤولا عن هذه الأفعال إلا إذا صنفت على أنها خيانة عظمى.
وقد يتعلق الأمر أيضا بأفعال تمت ببساطة بمناسبة ممارسته وظيفته الرئاسية ولكن غايتها خصوصية.
وفي هذه الحالة يمكن أن تشكل هذه الأفعال مخالفات جنائية، يعاقب عليها بموجب المدونة الجزائية أو بموجب قوانين خاصة، مثل مدونة الصفقات العمومية أو القانون الخاص بالفساد وتبييض المال الوسخ. في هذه الحالة الأخيرة، سيكون الرئيس السابق مسؤولا عن أفعاله أمام المحاكم العادية.
ويجدر التنبيه في هذا الصدد إلى أنه إذا لاحظت لجنة التحقيق البرلمانية خلال تحرياتها وجود مخالفات جزائية، فإنها ملزمة عادة بإبلاغ وكيل الجمهورية: هذا الأخير يمكنه أيضا أن يتعهد بالقضية تلقائيا على أساس المعلومات التي قد تكون اطلعت عليها اللجنة بخصوص مثل هذه المخالفات.
وفي كل الحالات، فإن اللجوء إلى القضاء العادي بدل المحكمة السامية قد يكون الخيار الأفضل وذلك لثلاثة اعتبارات
ـ الاعتبار الأول : هو أن محكمة العدل السامية ليست مختصة إلا في حالة الخيانة العظمى، وهو مفهوم غير محدد (لا نعرف إن كان يشمل المخالفات الجزائية) ولا وجود لعقوبة محددة سلفا بخصوصها! فالفرنسيون الذين أخذنا منهم هذا المفهوم قد تركوه منذ 2007، دون أن يكونوا قد طبقوه على الإطلاق. لقد أبدلوه بمسطرة لعزل الرئيس الممارس للسلطة، في حال " إخلاله بواجباته الذي يظهر أنه لا يتماشى مع مأموريته"؛ أما بخصوص رئيس سابق، فإنه مسؤول أمام المحاكم العادية عن كافة الأفعال التي يعتبر مسؤولا عنها قانونا. وكمقارنة، توفر هذه المحاكم مزية أنها ترجع إلى مخالفاتٍ العناصر المكونةُ لها محددةٌ بشكل جيد وعقوباتُها محددةٌ كذلك سلفا.
ـ الاعتبار الثاني : هو أن القضاء العادي يتولاه قضاة مهنيون يفترض أنهم يعرفون مهنتهم ومقيدون بقواعد إجرائية واضحة ومتعارف عليها. عكس ذلك، فإن القضاة الرسميين لمحكمة العدل السامية هم نواب، أي سياسيون، وقد كان لدي دائما، فيما يخصني، تحفظ على قبول الخلط بين الأوصاف، وبالأخص تداخل المنطق القانوني بالمنطق السياسي. فكلاهما قد يخسر روحه!
ـ الاعتبار الثالث : هو أنه بخصوص محاكمة محتملة تتعلق بتملك غير شرعي لأموال عمومية، فإن الصلاحيات التي يتوفر عليها القضاء العادي (مداهمات، حجز، استرداد... إلخ) هي أكثر شمولية مما هو ممنوح لمحكمة العدل السامية.
كخلاصة، فإن الأسس القانونية لاختصاص المحاكم العادية في حال ورود أدلة على أفعال منسوبة إلى رئيس الجمهورية السابق أو إلى مسؤولين آخرين، هي أسس قوية. فعند اللزوم يعود الأمر إلى هذه المحاكم لتأكيد اختصاصها، ذلك أنه إذا كنا نحن، أساتذة القانون، نقدم آراء قانونية، فإن من صلاحية المحاكم التي تَتَصَدَّرُها المحكمة العليا، ووفق القانون، أن تقول ما هو التأويل الأفضل للقانون المعمول به.